فصل: مطلب لا تزر وازرة وزر أخرى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب لا تزر وازرة وزر أخرى:

قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} أي لا تحمل كل نفس إلّا وزرها وقد مر تفسيرها في الآية 38 من سورة والنجم المارة، وهاتان الآيتان لا يتنافيان مع الآية 88 من سورة النمل والآية 14 من سورة العنكبوت في ج 2 وهي {لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ} لأن هذه في الظالمين المضلين لانهم يحملون إثمهم وإثم من يضلونهم {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} بالأوزار في ذلك اليوم الذي يفر فيه الأخ من أخيه والأب من ابنه والزوجة من زوجها {إِلى حِمْلِها} الذي أثقلها ليحملوا منه شيئا يخففون به عنها مما جنته من الذنوب في الدنيا {لا يُحْمَلْ مِنْهُ شيء} إذ لم يجبها أحد ممن تستنجد به وتستغيث، لان كلا مشغول برزره حائر في أمره {وَلَوْ كانَ} من تدعوه أو ترجوه {ذا قُرْبى} منه، فإنه لا يجيب دعاءه ولا يحمل عنه شيئا.
قال ابن عباس يعلق الأب والأم بالابن فيقول كل منها يا بني احمل عني بعض ذنوبي، فيقول لا أستطيع حسبي ما عليّ.
وظاهر الآية نص في الحمل الاختياري فيكون ردا لقول المضلين ولتحمل خطاياكم، يؤيده سبب النزول وهو كما روى عن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين اكفروا بمحمد وعليّ وزركم فنزلت هذه الآية، إلا أن المنفي عام وعمومه ينافي اختصاصه بالاختيار، لأنه يعم أقسام الحمل، جبرا أو اختيارا.
قال تعالى يا أكرم الرسل {إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} من حيث لم يروه فهم الذين تنفعهم الذكرى بوعظك وإنذارك لاولئك المشركين {وَأَقامُوا الصَّلاةَ} معك ابتغاء مرضات اللّه فيصلون معك من غير أن أفرضها عليهم اقتداء بك ونأسيا بأفعالك، وذلك أن الركعتين اللتين فرضهما اللّه على رسوله كانتا خاصتين به يؤديهما في الغداة والعشية ولم يأمر أحدا من أصحابه بفعلها لان اللّه لم يأمره بذلك وكان بعض أصحابه يفعلونها تأسيا بفعله ليس إلا، وهذا المراد واللّه أعلم من هذه الصلاة لان الصلاة المكتوبة لم تفرض بعد كما نوهنا به غير مرة عند كل ذكر لفظ الصلاة {وَمَنْ تَزَكَّى} من أوزار المعاصي بفعل الطاعات والقربات وصلى معك هذه الصلاة من غير أن تفرض عليه قصد التطهير لنفسه وتزكيتها {فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} خاصة لأنه هو المنتفع بها.
وقرأ ابن مسعود وطلحة {أزكى} بإدغام التاء في الزاي واجتلاب همزة الوصل في ابتداء، وهي قراءة شاذة لا عبرة بها لما ذكرنا غير مرة أن كل قراءة فيها زيادة حرف أو نقصه أو تبديله لا قيمة لقول من يقول بها {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} 18 لا إلى غيره فيجازى الدنس على رجسه والمتزكي على طهارته، ثم ضرب اللّه مثالا آخر للجاهل والمؤمن فقال: {وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ} 19 وللكافر والمؤمن بقوله: {وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ} 20 وللجنة والنار بقوله: {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} 21 ولمن ينتفع بدعوة الرسل ومن لا ينتفع بها بقوله: {وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ}.

.مطلب في إسماع الموتى:

وختم هذه الآية العظيمة وكل آيات اللّه عظيمة، بجملة فعلية تعود لكل من هؤلاء وهي {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ} إسماعه سماع قبول فيتعظ بما يسمع ويهتدي به، أما الذين لم يشأ إسماعهم فلا تقدر يا أكمل الرسل على إرشادهم لأنهم في حكم الأموات ولذلك قطع رجاءه منهم بقوله: {وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} 22 فكما أن الموتى لا يجيبون الدعوة فكذلك هؤلاء، وهذه الجملة ترشيح للمصرين على الكفر.
ولهذا فيكون المعنى لا تحرص يا حبيبي وتجهد نفسك على دعوة قوم مخذولين، قد سبق لهم الشقاء في علم اللّه {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} 23 لهم ومبلغ لا مجبر ولا مسيطر عليهم، فمن سمع منك إنذارك سماع قبول انتفع به وأرشد، ومن أعرض عنه فقد هلك وفسد فاتركه لا تأسف عليه.
ولا يرد على هذه مخاطبة الرسول صلى اللّه عليه وسلم قتلى بدر في القليب، لأن المراد نفي الإسماع بطريق العادة، وذلك على طريق المعجزة وهي خارقة للعادة، وما يدريك أن اللّه تعالى هو الذي أمره بخطابهم على حجة التبكيت والتوبيخ والتقريع بهم، وبأمثالهم إذ ذاك، لأنه لا ينطق عن الهوى، وما يدريك أن اللّه أسمعهم كلامه أيضا وأعطاهم قوة الرد عليه وإسماعه جوابهم وهو على كل شيء قدير {إِنَّا أَرْسَلْناكَ} يا سيد الرسل لهؤلاء وغيرهم {بِالْحَقِّ بَشِيرًا} بالوعد وإنجازه للطائعين {وَنَذِيرًا} بالوعيد وتنفيذه للعاصين {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ} 24 من نبي أو رسول أو خليفة لهما، وهذا عموم خص منه العرب ما بين إسماعيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام، إذ لم يرسل إليهم رسول ولا خليفة رسول ولم يترك لهم كتاب، كما سنبينه في تفسير الآية الأولى من سورة السجدة والآية 44 من سورة سبأ في ج 2، وقد مرّ شيء عنه في تفسير الآية 16 من سورة يس المارة.

.مطلب عدم انقطاع آثار الأنبياء وعدم تكفير فاعل الكبيرة:

ولا يقال إن أكثر الأمم بين إبراهيم وموسى، وموسى وعيسى، وعيسى ومحمد صلى اللّه عليه وسلم ومن قبلهم لم يسلف فيها نذير وقد خلت من النبوة، لأن آثار الأنبياء فيهم باقية، وما وقع من العذاب على الكافرين منهم تنافله الخلق عن السلف، ولم ينقطع التعبد بصحف إبراهيم وإرشاده إلى زمن موسى، ولا بالتوراة إلى زمن عيسي، ولا بالإنجيل إلى زمن محمد بالنسبة لأهل الكتاب، وكذلك من قبلهم إذ دامت وصايا الأنبياء فيهم بالتناقل، وعلى هذا لم يخل وجه الأرض من آثار النبوة إذ كلما اندرست تعاليم نبي أعقبه الآخر فيحدد عهده وينشر أوامر ربه فيهم، وهكذا محمد صلى اللّه عليه وسلم، فإنه بعث قبل تمام اندراس أحكام التوراة والإنجيل، فجدد ما اندرس من ذلك شأن الأنبياء قبله وبعد أن آتاه القرآن عمم أحكامه وأمر برفض ما يخالفه، لأنه الحكم الأخير القاطع الساري على أهل الأرض إلى وقت إبادتهم، فهو خاتم الكتب السماوية، كما أنه خاتم الرسل والأنبياء، وآثار إنذاره وإرشاده الحسي والمعنوي مما جاء به من عند ربه، وما سنّه لأمته باق بتمامه إلى اليوم وبعده وإلى أن يرث الأرض ومن عليها بارئها، وقد تعهد اللّه له بحفظ كتابه إلى اندراس هذا الكون وحتى لا يبقى من يقول لا إله إلّا اللّه.
قال عليه الصلاة والسلام: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق- وفي رواية لا يضرهم من خالفهم- حتى يأتي أمر اللّه» القائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} الآية 10 من سورة الحجر في ج 2، حتى إذا جاء أمره بخراب هذا الكون رفعه بموت أهله وعدم تعلمه، واكتفى بهذه الآية بذكر النذير عن البشير في آخر الآية بعد ذكرها مقرونين في أولها، لأن النذارة مشفوعة بالبشارة فدل ذكرها عليها، قال بعضهم: إن عموم هذه الآية وقوله تعالى: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ} الآية 29 من سورة الانعام في ج 2، يفيد أن في البهائم وسائر الحيوانات أنبياء أو علماء ينذرونهم.
وهو قول باطل لا تخفى سماجته على البهائم أمثال هذا القائل.
وما نقل عن الشيخ محي الدين قدّس سره في هذا المعنى لا يكاد يصح، وإذا كان موجودا في كتبه فهو من جملة ما دس فيها عليه من الجمل التي يبعد أن تصدر عن مثله.
قال محمود الآلوسي في تفسيره رأيت في بعض الكتب أن القول بذلك كفر وأنا أقول إذا لم يكن كفرا فهو قريب منه، والأولى أن لا يكون كفرا لاحتمال التأويل في ذلك وكل ما احتمل فيه التأويل لا يكفر به، وعلى فرض أنها كبيرة ففاعلها لا يكفر راجع تفسير الآية 76 من سورة يس والآية 19 من سورة الفرقان المارتين، قال تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} يا سيد الرسل {فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أنبياءهم وآذوهم كما فعل بك قومك وقد {جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ} الواضحات مثل ما جئتهم به {وَبِالزُّبُرِ} الصحف المكتوبة على الألواح المنزلة من لدنا على أنبيائهم السابقين {وَبِالْكِتابِ} الذي أنزلناه جملة واحدة كالتوراة والإنجيل والزبور {الْمُنِيرِ} 25 كل منها بأوضح وأفصح الدلائل على توحيدنا ومع ذلك لم يؤمنوا، فلا تذهب نفسك حسرات عليهم.
وفي هذه الآية تسلية لحضرة الرسول مما يلاقي من نكد قومه ليخفف عنه بعض همه عليهم واهتمامه بهم، لاستعجال إيمانهم، وإن شأنه شأن من قبله من الأنبياء مع أقوامهم، وان له أسوة بهم في عدم قبول الدعوة وتحمل الأذى {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا} بهم وبكتبهم بعقوبات متنوعة بعد إمهالهم مددا يتذكر فيها من يتذكر {فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ} 26 عليهم وتعذيبي لهم إنه كان شيئا عظيما لم يتصوروه، ولم يقدر على إنزال مثله غيري أنا الإله المنتقم ممن كفر بي، وفي هذه الآية تهديد لقريش قوم محمد صلى اللّه عليه وسلم بأنهم إذا لم يؤمنوا يحل بهم ما حلّ بغيرهم من النكال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوانُها} في الخضرة والحمرة والصفرة وغيرها مما لا يحصر لونا وجنسا وشكلا ونوعا، مع أنها تخرج من أرض واحدة وتسقى بماء واحد، وتتفاوت بالنمو وتختلف بالحجم والطعم، وتنضج بسبب واحد، وتختلف بذلك كله، فسبحان البالغ بالقدرة والصنع {وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ} طرق جمع جادة، ويأتي بمعنى النهر وطريقه، وخطط مختلفة اللون أيضا منها {بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها} لأن كل طريق على لون أرضه، وكل لون يتشعب منه ألوان كثيرة من الزرقة والصّفرة {وَغَرابِيبُ سُودٌ} 27 يقال أسود حالك لشديد السواد تشبيها بالغراب، كما يقال أبيض ناصع وأحمر قاني، وما أشبه ذلك، والغربيب أبعد لون في السواد، وجاء في الحديث: إن اللّه يبغض الشيخ الغريب الذي يخضب شعره بالسواد ويتمادى في السّفه أو الذي لا يشيب لسفاهته وعدم اهتمامه بآخرته، وفي مثله يقول الشاعر:
العين طامحة واليد شامخة ** والرجل لائحة والوجه غربيب

يريد أن شعره أسود حالك وكلمة سود بالآية بدل من غربيب المعطوفة على بيض، وهي لم تتكرر بالقرآن {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ} أيضا لأنها كلها من الأرض، والأرض متنوعة فتتبع أصلها {كَذلِكَ} كاختلاف الأثمار والجبال.
وهنا تم الكلام فيما يتعلق بذلك.

.مطلب خشية اللّه تعالى:

ثم يبدأ بقوله: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} قال ابن عباس: إنما يخافني من علم جبروتي وعزتي وسلطاني.
وقال مقاتل: أشد الناس خشية للّه أعلمهم به.
وقال الربيع بن أنس: من لم يخش اللّه ليس بعالم.
روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: «صنع رسول اللّه شيئا فرخص فيه فتنزه عنه قوم، فبلغرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فخطب فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟! فو اللّه إني لأعلمهم به وأشدهم له خشية» ومعنى ترخّص أي لم يشدد فيه، وتنزه تباعد عنه وكرهه ورويا عن أنس قال: «خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، فغطى أصحاب رسول اللّه وجوههم لهم خنين بكاء مع غنة» والمراد بالعلماء هنا المخلصون العارفون باللّه العالمون بما يليق به من صفات وأفعال حق العلم والمعرفة، لا العالمون بالمنطق واللغة والهندسة والرياضيات والكيمياء والسحر وغيرها، لأن هذه وإن كانت علوما يطلب تعليمها لمصالح الدنيا، إلا أنها لا تكون مدارا لخشية اللّه المنوه بها في الآية التي كلما ازداد بها العالم معرفة ازداد معرفة باللّه، وكان أكثر خشية له من غيره.
نعم إن في علم الطب وتشريح الأعضاء والوقوف على كامل خلق اللّه ما يوجب الخشية للّه والرجوع إليه، وجدير بالكافر أن يؤمن إيمانا كاملا لما يرى من بديع صنع اللّه في خلقه، ولكن قليل ما هم أولئك الذين يتفكرون في ذلك.
روى الدارمي عن عطاء قال: قال موسى عليه السلام: يا رب أي عبادك أحكم؟ قال الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه.
قال يا رب أي عبادك أغنى؟
قال أرضاهم بما قسمت له.
قال يا رب أي عبادك أخشى؟ قال أعلمهم بي.
وصح عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «أنا أخشاكم للّه وأتقاكم له».
وقرأ بعضهم برفع لفظ الجلالة ونصب العلماء، وأول يخشى بيعظم، وليست بشيء لأن يخشى لا يأتي بمعنى يعظم من حيث اللغة فضلا عن انها قراءة بخلاف الظاهر، ولذلك لا عبرة بها، وإن كان المعنى صحيحا لما فيها من التكليف دون حاجة، والتأويل دون مستند ومعناها على الوجه الذي ذكرناه أولى وأليق {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} غالب كامل القدرة على الانتقام ممن لا يخشاه {غَفُورٌ} 28 لمن خشيه وأناب إليه.
واعلم أنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة، ومن كان كذلك فحقه أن يخشى، قالوا أنزلت هذه الآية في أبي بكر رضي اللّه عنه إذ ظهرت عليه خشية اللّه حتى عرفت فيه، وهو أحق وأولى أن تنزل فيه الآيات، إلا أن الآية عامة، ولا دليل يخصصها بأحد فيدخل فيها أبو بكر دخولا أوليا، وكل من يخشى اللّه إلى يوم القيامة خشية حقيقية قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ} مع حضرة الرسول قبل أن تفرض عليهم تأسيا به {وَأَنْفَقُوا} تطوعا على الفقراء والمساكين من قراباتهم وغيرهم في سبيل اللّه ابتغاء مرضاته {مِمَّا رَزَقْناهُمْ} من فضلنا مما هو فاضل عن كفايتهم {سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ} بذلك الإنفاق {تِجارَةً} مع اللّه تعالى فقد نيل ثوابه {لَنْ تَبُورَ} 29 تكسد بل تتداول دائما، وقد تعهد اللّه لمثل هؤلاء على لسان رسوله بقوله واعدا مؤكدا {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} كاملة على أعمالهم هذه {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} زيادة عظيمة، وما بالك بزيادة اللّه أيها القارئ فهي وهو أعلم كما قال ابن عباس مما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم تخطر على قلب بشر {إِنَّهُ غَفُورٌ} كثير المغفرة لذنوب عباده المنفقين في سبيله {شَكُورٌ} 30 لعملهم هذا {وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} يا سيد الرسل {مِنَ الْكِتابِ} هو من كلامنا الأزلى ليس بسحر ولا كهانه ولا شعر، وإنما {هُوَ الْحَقُّ} الذي لا مرية فيه وقد أنزلناه {مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب المتقدمة لاشتماله عليها وزيادة كثيرة لم تذكر فيها ولم تنزل على أحد قبلك، لأنه خاتمة الكتب أنك خاتم الرسل وهو ناسخ لكل ما يخالفه مما في الكتب القديمة {إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} 31 ببواطن الأمور وظواهرها، يحيط بهم لا يخفى عليه شيء من أمرهم {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ} القرآن المنزل عليك يا سيد الرسل {الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا} أمتك المخلصين الجارين على طريقك، لأننا اصطفيناهم لك من بعدهم كما اصطفيناك لهم من بعد الرسل، قال ابن عباس يريد أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم، لأنه اصطفاهم على سائر الأمم، واختصّهم بكرامته، بأن جعلهم اتباع سيد الرسل، وخصّهم بأفضل الكتب، وجعلهم خير الأمم ثم قسمهم جل شأنه أقساما ثلاثة فقال: {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ} وهم المرجون لأمر اللّه مثل الآتي ذكرهم في الآية 108 من سورة التوبة في ج 3 فهؤلاء إن شاء عذّبهم بعدله، وإن شاء عفا عنهم بفضله {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} خلط عملا صالحا وآخر سيئا وهؤلاء مقطوع لهم بالنتيجة بأنهم من أهل الجنة، لقال تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} الآية 104 من سورة التوبة لأن عسى فيها للتحقيق وهكذا كل عسى بالبينة للّه تعالى {وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ} وهؤلاء يدخلون الجنة بغير حساب، المرادون في قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} الآية 102 من التوبة أيضا، كما سنبين هذا كله في محله في تفسير هذه الآيات وآخر سورة الواقعة الآتية إن شاء اللّه تعالى قال عمر رضي اللّه عنه على المنبر بعد تلاوة هذه الآية، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له»، وجاء أيضا عنه صلى اللّه عليه وسلم: «السابق يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة، وأما الظالم فيحبس حتى يظن أنه لا ينجو، ثم تناله الرحمة فيدخل الجنة»- رواه أبو الدرداء- وقال ابن عباس: السابق المخلص، والمقتصد المرائي، والظالم الكافر بالنعمة غير الجاحد لها.